فن

«ANORA» لشون بيكر: لا أريد لهذا الخيال أن ينتهي

قصة فتاة راقصة تزوجت من طفل أملًا في أن يدخلها عالم ديزني لتصبح أميرة كما سندريلا.. فيلم تدور أحداثه بين أزمة هوية وفانتازيا خيالية.

future الملصق الدعائي لفيلم «ANORA»

في ليلة الأوسكار الأخيرة وفي خطابه المقتضب على فوز فيلمه «ANORA» بأوسكار أفضل فيلم، يعلق شون بيكر: «أود أن أشكر الأكاديمية على تكريمها لفيلم مستقل بحق. صُنع هذا الفيلم بجهد ودموع فنانين مستقلين رائعين. تحيا السينما المستقلة».

لم يجسد هذا الفوز حلم كل مخرج مستقل فقط، فقد حقق بيكر تلك الليلة ما لم يحققه مخرج آخر في كل تاريخ الأوسكار حين فاز بأربعة جوائز عن فيلم واحد.

كان بيكر القادم من عالم السينما المستقلة قد نال بالفعل استحسانًا واضحًا وكثيرًا من الإشادات المستحقة لعمله السابق عن أفلام «Tangerine، The Florida Project، Red Rocket» لكن فيلمه هذا الذي سبق ومنحه السعفة الذهبية في كان 2024 يمنحه ربما أكثر مما حلم به ذات يوم. 

تعتبر ميزانية بيكر في هذا الفيلم أعلى قليلًا من أفلامه السابقة ومع ذلك لا تقارن بأي شيء تصنعه الاستوديوهات الكبيرة أو حتى الصغيرة.

تدور حكاية أحدث أفلام بيكر حول أنورا أو آني- مايكي ماديسون وهي راقصة وعاملة جنس، في ملهى للتعري في مانهاتن، تلتقي ذات ليلة بطفل من الأوليجاركية الروسية يغير حياتها في وقت قياسي إلى ما يشبه الحلم قبل أن تهوي سريعًا ومجددًا الى الواقع.

يشبه أنورا أفلام بيكر السابقة ويحمل كل هواجسها وكذلك يدخل به إلى منطقة جديدة عليه. أفلام شون بيكر السابقة متجذرة فيما يمكن أن نسميه بالواقعية الاجتماعية والتي تسعى أثر الحقيقة عبر التصوير الدقيق لواقع الطبقات الاجتماعية الدنيا والمهمشة. تتنافر مثل هذه الأفلام بشكل واضح مع السينما الهوليودية في نسختها الخيالية لواقع ملمع وبراق.

يجرب بيكر في هذا الفيلم شيئًا جديدًا بمزجه واقعيته المعتادة مع عدد من الجونرات الهوليودية على نحو تحريفي. يضفي بيكر هنا القليل من التألق والجاذبية إلى وصفته. بدا لي الفيلم مع المشاهدات التالية مثل فيلمين في توتر دائم، أحدهما يشبه بيكر والآخر لا يشبهه لكنهما يمتزجان معًا بلمسة ساحرة، فتحت السطح المتألق لأنورا بحيوية إيقاعه وتبدلات نبرته تتكشف شيئًا فشيئًا تلك الهشاشة الحزينة والمعتادة لشخصيات بيكر والتي يبدو أن الحلم الأمريكي أسقطها من حساباته.

عالم شون بيكر وهواجسه

يمكن اعتبار شون بيكر أحد شعراء الهامش في السينما الأمريكية. واقعيته دائمًا مكسورة برهافة شعرية متعاطفة وحنونة. في سياق هواجس بيكر المتكررة، فإن أنورا هو استمرار لولعه بحكاية العاملين بمجال الجنس وسردياته المتعاطفة والمحبة لعالم الهامش، حيث تتكشف حياة أبطال عبر ضغطها في مواقف يائسة. أفلامه هي قصص صريحة عن الفقر في أمريكا.

في فيلمه السابق الأكثر مديحًا «مشروع فلوريدا» وعند النهاية حين تأتي الشرطة للقبض على هايلي الأم العزباء للطفلة مونيه من مكان إقامتها في فندق رخيص قرب عالم ديزني، تهرب مونيه ذات الستة أعوام إلى صديقتها جانسي والتي حين ترى محنة صديقتها، تمسك بيدها وتهرب معها إلى مملكة السحر في عالم ديزني، حيث قلعة سندريلا.

يتحول أسلوب الفيلم البصري من الواقعية إلى طابع أكثر غرابة وخيالًا، حيث تختفي مونيه وجانسي وسط الحشود. ليس واضحًا ما إذا كانت الفتاتان قد دخلتا المدينة حقًا أم أن هذا كان نوعًا من الهروب الخيالي من واقع لا يُطاق.

تذكرني آني بمونيه حين يدخل إيفان حياة آني فإنه يداعب داخلها حلمًا طفوليًا بأن تكون أميرة داخل عالم سحري. تحكي آني لصديقتها بعد زواجها أنها ترغب أن تقضي شهر عسلها في عالم ديزني حيث تعيش تيمة أميرة ديزني داخل هذا العالم. تخبرها صديقتها: مثل سندريلا؟! تجيبها: نعم، مثل سيندريلا اللعينة.

كل من يعرف سيما بيكر، سيعرف خداع هذا الحلم وأن آني تصدقه حتى لو بدا غير حقيقي.

حين تعرف عائلة إيفان الثرية والخطرة بزواجه ترسل بعض أتباعها في نيويورك إلى حيث يقيم مع آني لإجبارهما على إبطال الزواج. تقاوم آني طويلًا بينما يهرب الطفل متخليًا عنها في أول لحظة.

مزيج متناغم من الجونرات والنبرات

لا يقدم بيكر هنا سردًا رائدًا تمامًا أو مبتكرًا. يتنقل بخفة وتناغم بين أكثر من جونرة ونبرة، من الكوميديا الرومانسية المحمومة إلي نوع من السلابستيك كوميدي ثم إلى فيلم طريق ينتهي بتتابع يبدو كفيلم مستقل لشون بيكر. يبني بيكر فيلمه عبر ثلاثة فصول سردية وخاتمة. كل منها له إيقاعه ومزاجه الخاص. يفضي كل فصل للآخر بسلاسة من دون أن يفقد السرد تدفقه أو اتجاهه. 

ما بدأ كقصة رومانسية خيالية يتحول إلى كوميديا صاخبة ثم إلى اندفاع مجنون لأتباع عائلة إيفان الحمقى مع آني عبر شوارع بروكلين ومانهاتن الشتوية في الليل بحثًا عن زوجها الهارب. بفضل عدسته اليقظة، تكتسب بعض زوايا المدينة الأقل بريقًا جمالًا خاصًا مع تيار خفي من المشاعر المتبدلة والمتنامية بين أنورا وإيجور أحد الأتباع الثلاثة والذي تبدأ علاقته بأنورا على قدم خاطئة.

في نهاية هذه الرحلة تواجه آني ذاتها الحقيقية. يحافظ بيكر على نغمة فيلمه المرحة والمنطلقة، فقط قرب النهاية تبدأ الضحكات في التلاشي ويستقر السرد في مكان هادئ للتأمل. يظل بيكر هنا مخلصًا لمنظوره وحساسيته حتى وهو يوسع نطاق سينماه ويجرب جديدًا، حتى حين يستعير فيلمه مظهر وتقاليد السينما الهوليودية فإنه يحافظ على تلك الحافة الخشنة للسينما المستقلة.

بين أنورا وآني: لا أريد لهذا الخيال أن ينتهي

تصر أنورا أكثر من مرة خلال السرد أن تنادى آني كما تتجنب التحدث بالروسية، على الرغم من أننا نعلم لاحقًا أنها تفهمها ويمكنها التحدث بها، وهو ما يلمح إلي نوع من الصراع مع الهوية الذاتية. نلتقي أولًا بآني راقصة التعري قوية الشخصية برجماتية وذكية والتي تدرك تمام الإدراك وضعها كعاملة مستغلة، بينما أنورا حادة الطباع وعصبية المزاج وتمتلك نوعًا من السذاجة الطفولية.

آني هي نوع من الأداء، قناع أو برسونا لحماية أنورا الأكثر هشاشة. طيلة الفيلم، نشاهد آني مع لمحات من أنورا لكن مع تقدم القصة، نشاهد الوجه الحقيقي لهذه الشخصية، الوجه الساذج لطفلة تحلم أنها أميرة في حكاية خيالية وليس القناع الواثق لفتاة مستغلة في واقع قاس.

تبدو مقاومة آني اليائسة لإنهاء زواجها البائس من إيفان مقاومة لتكشف هشاشتها ونوعًا من الاستثمار في فانتازيا خيالية تبقي الوهم عالقًا لأطول فترة ممكنة. يخبرها إيجور قرب النهاية «أحب أنورا أكثر من آني». تفضي هذه الرحلة التي تقوم بها أنورا عبر الفيلم إلي نوع من التصالح مع جانب الضعف والهشاشة بداخلها والذي يتجلى واضحًا في مشهد النهاية.

في حوار قديم لبيكر مع المخرج الأمريكي جون ووترز، يسأله الأخير إذا ما كان يرغب في صنع فيلم ذات يوم عن أحد الأثرياء ويجيب بالنفي. لا يبدي أنورا أي تناقض مع هذا التصريح، فهذا الخط الدامي الخاص بطفل الأوليجاركية الروسية ليس أكثر من حيلة، من حصان طروادة، كلحظة تحليق درامية تخفي هزيمة أنورا وهي هزيمة تفضي إلى لون من التصالح مع الذات والواقع.

ينتهي كل من فيلمي «مشروع فلوريدا» و«الصاروخ الأحمر» لبيكر بمشاهد خيالية، تجذب المشاهدين والشخصيات بعيدًا عن العالم الحقيقي، بينما ينتهي أنورا حيث لا تملك آني أي خيال متبقي بداخلها، حيث عليها أن تحاول النجاة على الهامش ككل أبطال بيكر.

# فن # سينما عالمية # سينما # أوسكار 2025 # جوائز ومهرجانات # موسم الجوائز السينمائية

مسلسل «لام شمسية»: العنف الجنسي كأزمة فردية
فيلم «6 أيام»: رحلة ما بين الزمن واللانهاية بحثًا عن النجاة بالحب
صورة قابض الأرواح في السينما: كيف تغلب المخرجون على هاجس الموت

فن